فصل: تفسير الآية رقم (17):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (9):

{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9)}
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} شروع في تعداد بعض ما ذكر من الأنباء الموجبة للازدجار؛ ونوع تفصيل لها وبيان لعدم تأثرهم بها تقريرًا لفحوى قوله تعالى: {فَمَا تُغْنِى النذر} [القمر: 5] والفعل منزل منزلة اللازم أي فعلت التكذيب قبل تكذيب قومك قوم نوح، وقوله تعالى: {فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا} تفسير لذلك التكذيب المبهم كما في قوله تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ} [هود: 45] إلخ، وفيه مزيد تحقيق وتقرير للتكذيب، وجوز أن يكون المعنى كذبوا تكذيبًا إثر تكذيب كلما خلا منهم قرن مكذب جاء عقيبه قرن آخر مكذب مثله، أو كذبت قوم نوح الرسل فكذبوا عبدنا أي لما كانوا مكذبين للرسل جاحدين للنبوة رأسًا كذبوا نوحًا لأنه من جملة الرسل، والفاء عليه سببية، وقيل: معنى كذبت قصدت التكذيب وابتدأته، ومعنى فكذبوا وبلغوا نهايته كما قيل في قوله:
قد جبر الدين الأله فجبر

وفي ذكره عليه السلام بعنوان العبودية مع الإضافة إلى نون العظمة تفخيم له عليه السلام ورفع لمحله وتشنيع لمكذبيه.
{وَقَالُواْ مَجْنُونٌ} أي لم يقتصروا على مجرد التكذيب بل نسبوه إلى الجنون فقالوا هو مجنون {وازدجر} عطف على قالوا وهو إخبار منه عز وجل أي وزجر عن التبليغ بأنواع الأذية والتخويف قاله ابن زيد، وقرأ {لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يالوط نُوحٌ لَتَكُونَنَّ مِنَ المرجومين} [الشعراء: 116] وقال مجاهد: هو من تمام قولهم أي هو مجنون، وقد ازدجرته الجن وذهبت بلبه وتخبطته، والأول أظهر وأبلغ، وجعل مبنيًا للمفعول لغرض الفاصلة، وطهر الألسنة عن ذكرهم دلالة على أن فعلهم أسوأ من قولهم:

.تفسير الآية رقم (10):

{فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10)}
{فَدَعَا رَبَّهُ أَنّى} أي بأني.
وقرأ ابن أبي اسحق. وعيسى. والأعمش. وزيد بن علي ورويت عن عاصم {إِنّى} بكسر الهمزة على إضمار القول عند البصريين، وعلى إجراء الدعاء مجرى القول عند الكوفيين {مَغْلُوبٌ} من جهة قومي مالي قدرة على الانتقام منهم {فانتصر} فانتقم لي منهم، وقيل: فانتصر لنفسك إذ كذبوا رسولك، وقيل: المراد غلوب غلبتني نفسي حتى دعوت عليهم بالهلاك وهو خلاف الظاهر وما دعا عليه السلام عليهم إلا بعد اليأس من إيمانهم، والتأكيد لمزيد الاعتناء بأمر الترحم المقصود من الأخبار.

.تفسير الآية رقم (11):

{فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ اءٍ مُنْهَمِرٍ (11)}
{فَفَتَحْنَا أبواب السماء اء مُّنْهَمِرٍ} أي منصب، وقيل: كثير قال الشاعر:
أعيناي جودًا بالدموع الهوامر ** على خير باد من معد وحاضر

والباء للآلة مثلها في فتحت الباب بالمفتاح، وجوز أن تكون للملابسة والأول أبلغ، وفي الكلام استعارة تمثيلية بتشبيه تدفق المطر من السحاب بانصباب أنهاء انفتحت بها أبواب السماء وانشق أديم الخضراء. وهو الذي ذهب إليه الجمهور، وذهب قوم إلى أنه على حقيقته وهو ظاهر كلام ابن عباس.
أخرج ابن المنذر. وابن أبي حاتم عنه أنه قال: لم تمطر السماء قبل ذلك اليوم ولا بعده إلا من السحاب، وفتحت أبواب السماء بالماء من غير سحاب ذلك اليوم فالتفى الماآن، وفي رواية لم تقلع أربعين يوما، وعن النقاش أنه أريد بالأبواب المجرة وهي شرج السماء كشرح العيبة، والمعروف من الأرصاد أن المجرة كواكب صغار متقاربة جدًا، والله تعالى أعلم.
ومن العجيب أنهم كانوا يطلبون المطر سنين فأهلكهم الله تعالى طلوبهم، وقرأ ابن عامر. وأبو جعفر. والأعرج. ويعقوب {فَفَتَحْنَا} بالتشديد لكثرة الأبواب، والظاهر أن جمع القلة هنا للكثرة.

.تفسير الآية رقم (12):

{وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12)}
{وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُونًا} وجعلنا الأرض كلها كأنها عيون متفجرة وأصله فجرنا عيون الأرض فغير إلى التمييز للمبالغة بجعل الأرض كلها متفجرة مع الابهام والتفسير، فالتمييز محول عن المفعول، وجعله بعضهم محولا عن الفاعل بناءًا على أنه الأكثر، والأصل انفجرت عيون الأرض وتحويله كما يكون عن فاعل الفعل المذكور يكون عن فاعل فعل آخر يلاقيه في الاشتقاق وهذا منه وهو تكلف لا حاجة إليه، ومنع بعضهم مجيء التمييز من المفعول فأعرب {عُيُونًا} حالا مقدرة، وجوز عليه أن يكون مفعولًا ثانيًا لفجرنا على تضمينه ما يتعدى إليه أي صيرنا بالتفجير الأرض عيونًا وكان ذلك على ما في بعض الروايات أربعين يومًا، وقرأ عبد الله. وأصحابه. وأبو حيوة. والمفضل عن عاصم {فجرنا} بالتخفيف {عُيُونًا فَالْتَقَى الماء} أي ماء السماء وماء الأرض، والإفراد لتحقيق أن التفاء الماءين لم يكن بطريق المجاورة بل بطريق الاختلاط والاتحاد، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه. والحسن. ومحمد بن كعب. والجحدري الماآن والتثنية لقصد بيان اختلاف النوعين وإلا فالماء شامل لماء السماء وماء الأرض، ونحوه قوله:
لنا إبلان فيهما ما علمتم ** فعن أيها ما شئتم فتنكبوا

وقيل: فيها إشارة إلى أن ماء الأرض فار بقوة وارتفع حتى لاقى ماء السماء وفي ذلك مبالغة لا تفهم من الأفراد، وقرأ الحسن أيضًا ما وان بقلب الهمزة واوًا كقولهم: علبا وان كما قال الزمخشري، ولم يرد أنه نظيره بل أراد كما أن هنالك إبدالًا بعلة أنها غير أصلية لأنها زائدة للالحاق كذلك هاهنا لانها مبدلة والبدل وإن كان من الهاء لكنه أجريت مجرى البدل عن الواو فقيل في النسبة فيه: ماوى، وجاء في جمعه أمواء كما جاء أمواه، ولا يبعد أن يكون من ثناه بالواو قاسه على النسبة كذا في الكشف، وعنه أيضًا المايان بقلب الهمزة ياءًا.
{على أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} أي كائنًا على حال قد قدرها الله تعالى في الازل من غير تفاوت أو على حال قدرت وسويت وهي أن ما نزل على قدر ما خرج.
وقيل: إن ماء الأرض علا سبعة عشر ذراعًا ونزل ماء السماء مكملًا أربعين، وقيل: ماء الأرض كان أكثر وله مقدار معين عند الله عز وجل، أو على أمر قدره الله تعالى وكبته في اللوح المحفوظ وهو هلاك قوم نوح بالطوفان، ورجحه أبو حيان بأن كل قصة ذكرت بعد ذكر الله تعالى فيها هلاك المكذبين فيكون هذا كناية عن هلاك هؤلاء، و{على} عليه للتعليل، ويحتمل تعلقها بالتقى. وفيه ردّ على أهل الأحكام النجومية حيث زعموا أن الطوفان لاجتماع الكواكب السبعة ما عدا الزهرة في برج مائي، وقرأ أبو حيوة. وابن مقسم {قُدِرَ} بتشديد الدال.

.تفسير الآية رقم (13):

{وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13)}
{وَحَمَلْنَاهُ} أي نوحًا عليه السلام {على ذَاتِ ألواح} أخشاب عريضة {وَدُسُرٍ} أي مسامير كما قاله الجمهور. وابن عباس في رواية ابن جرير، وابن المنذر جمع دسار ككتاب وكتب، وقيل: {دسر} كسقف وسقف. وأصل الدسر الدفع الشديد بقهر فسمى به المسمار لأنه يدق فيدفع بشدة. وقيل: حبال من ليف تشد بها السفن. وقال الليث: خيوط تشد بها ألواحها، وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة. والحسن أنها مقاديم السفينة وصدرها الذي تضرب به الموج وتدفعه. وروي عن ابن عباس نحوه. وأخرج عن مجاهد أنها عوارض السفينة أي الخشبات التي تعرض في وسطها. وفي رواية عنه هي أضلاع السفينة. وأيًا مّا كان فقوله تعالى: {ذَاتِ ألواح وَدُسُرٍ} من الصفات التي تقوم مقام الموصوفات على سبيل الكناية كقولهم: حي مستوى القامة عريض الأظفار في الكناية عن الإنسان وهو من فصيح الكلام وبديعه. ونظير الآية قول الشاعر:
مفرشي صهوة الحصان ولكن ** قميصي مسرودة من حديد

فإنه أراد قميصي درع. وقوله يصف هزال الإبل:
تراءى الهافي كل عين مقابل ** ولو في عيون النازيات بأكرع

فإنه أراد في عيون الجراد لأن النزو بالأكرع يختص بها. وأما كونه على حذف الموصوف لدلالة الصفة عليه على ما في المفصل وغيره فكلام نحوى.

.تفسير الآية رقم (14):

{تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14)}
{تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا} رأى منا. وكني به عن الحفظ أي تجري في ذلك الماء بحفظنا وكلاءتنا، وقيل: بأوليائنا يعني نوحًا عليه السلام ومن آمن معه يقال: مات عين من عيون الله تعالى أي ولي من أوليائه سبحانه، وقيل: بأعين الماء التي فجرناها، وقيل: بالحفظة من الملائكة عليهم السلام سماهم أعينًا وأضافهم إليه جل شأنه والأول أظهر، وقرأ زيد بن علي. وأبو السمال بأعينا بالادغام.
{جَزَاء لّمَن كَانَ كُفِرَ} أي فعلنا ذلك جزاءًا لنوح عليه السلام فإنه كان نعمة أنعمها الله تعالى على قومه فكفروها وكذا كل نبي نعمة من الله تعالى على أمته، وجوز أن يكون على حذف الجاء وإيصال الفعل إلى الضمير واستتاره في الفعل بعد انقلابه مرفوعًا أي لمن كفر به وهو نوح عليه السلام أيضًا أي جحدت نبوته، فالكفر عليه ضد الإيمان، وعلى الأول كفران النعمة، وعن ابن عباس. ومجاهد من يراد به الله تعالى كأنه قيل: غضبًا وانتصارًا لله عز وجل وهو كما ترى، وقرأ مسلمة بن محارب كفر بإسكان الفاء خفف فعل كما في قوله:
لو عصر منه البان والمسك انعصر

وقرأ يزيد بن رومان. وقتادة. وعيسى {كُفِرَ} مبنيًا للفاعل فمن يراد بها قوم نوح عليه السلام لا غير، وفي هذه القراءة دليل على وقوع الماضي بغير قد خبرًا لكان وهو مذهب البصريين وغيرهم يقول لابد من وقوع قد ظاهرة أو مقدرة، وجوز أن تكون {كَانَ} زائدة كأنه قيل: جزءًا لمن {كُفِرَ} ولم يؤمن.

.تفسير الآية رقم (15):

{وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آَيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15)}
{وَلَقَدْ تركناها} أي أبقينا السفينة {ءايَةً} بناءًا على ما روي عن قتادة. والنقاش أنه بقي خشبها على الجودي حتى رآه بعض أوائل هذه الأمة، أو أبقينا خبرها، أو أبقينا جنسها وذلك بإبقاء السفن، أو تركنا عنى جعلنا، وجوز كون الضمير للفعلة وهي إنجاء نوح عليه السلام ومن معه وإغراق الكافرين {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} أي معتبر بتلك الآية الحرّية بالاعتبار، وقرأ قتادة على ما نقل ابن عطية مذكر بالذال المعجمة على قلب تار الافتعال ذالا وإدغام الذال في الذال، وقال صاحب اللوامح: قرأ قتادة فهل من مذكر بتشديد الكاف من التذكير أي من يذكر نفسه أو غيره بها، وقرئ مذتكر بذال معجمة بعدها تاء الافتعال كما هو الأصل.

.تفسير الآية رقم (16):

{فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16)}
{فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ} استفهام تعظيم وتعجيب أي كانا على كيفية هائلة لا يحيط بها الوصف، والنذر مصدر كالإنذار، وقيل: جمع نذير عنى الإنذار، وجعله بعضهم عنى المنذر منه، وليس بشيء، وكذا جعله عنى المنذر، وكان يحتمل أن تكون ناقصة فكيف في موضع الخبر؟ وتامة فكيف في موضع الحال؟

.تفسير الآية رقم (17):

{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)}
{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرءان} إلخ جملة قسمية وردت في آخر القصص الأربع تقريرًا لمضمون ما سبقَ من قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءهُمْ} [القمر: 4] إلخ وتنبيهًا على أن كل قصة منها مستقلة بإيجاب الادكار كافية في الازدجار، ومع ذلك لم يحصل فيها اعتبار، أي وبالله لقد سهلنا القرآن لقومك بأن أنزلناه على لغتهم وشحناه بأنواع المواعظ والعبر وصرفنا فيه من الوعيد والوعد {لِلذّكْرِ} أي للتذكر والاتعاظ {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} إنكار ونفي للمتعظ على أبلغ وجه وأكده يدل على أنه لا يقدر أحد أن يجيب المستفهم بنعم، وقيل: المعنى سهلنا القرآن للحفظ لما اشتمل عليه من حسن النظم وسلاسة اللفظ وشرف المعاني وصحتها وعروّه عن الوحشى ونحوه فله بالقلوب وحلاوة في السمع فهل من طالب لحفظه ليعان عليه؟ ومن هنا قال ابن جبير: لم يستظهر شيء من الكتب الإلهية غير القرآن، وأخرج ابن المنذر. وجماعة عن مجاهد أنه قال: يسرنا القرآن هونا قراءته.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس لولا أن الله تعالى يسره على لسان الآدميين ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلم بكلام الله تعالى.
وأخرج الديلمي عن أنس مرفوعًا مثله. وأخرج ابن المنذر عن ابن سيرين أنه مرّ برجل يقول سورة خفيفة فقال: لا تقل ذلك ولكن قل سورة يسيرة لأن الله تعالى يقول: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرءان لِلذّكْرِ} والمعنى الذي ذكر أولًا أنسب بالمقام، ولعل خبر أنس إن صح ليس تفسيرًا للآية، وجوز تفسير {يَسَّرْنَا} بهيأنا من قولهم: يسر ناقته للسفر إذا رحلها، ويسر فرسه للغزو إذا أسرجه وألجمه قال الشاعر:
وقمت إليه باللجام ميسرًا ** هنالك يجزيني الذي كنت أصنع